أرق الروح مابين السرد والتوثيق
يبقى الواقع أجمل من الخيال حتى وأن حلق بنا في الأعالي البعيدة التي لا يمكن أن نكون بها في حياة واقعية، هكذا كانت
يمنى العيد التي اعتدنا على قلمها ككاتبة ناقدة، وثقت حياتها بطريقة السرد الروائي، لتقدم لنا نوع جديد من أنواع الأدب وهو الرواية الواقعية، سيرة تزاوج بين الخيال والواقع وكأنها بذلك أرادت أن تُرسي قواعد لكتابة السيّر الذاتية الأدبية، فكانت سيرتها مغايرة تمامًا لما اعتدنا عليه، كسرت الإيقاع المونولوجي الرتيب، فذكرت الأحداث بصيغة الضمير الغائب «عائشة، البنت الكبرى، تحمل الطفلة الملفوفة بالأقمطة، تضعها إلى جانب أمها. كانت هادئة كأنها تبتسم الملائكة يحرسونها». ص١٨ وتارة بصيغة المخاطب «كفى يا يُمنى! يا أنت المشحونة برغبة الولادة الأخرى لذاتك، ولادة تود أن تقطع مع زمن مضى ولا يمضي» ص٢٩
يعتبر الكتاب مؤرخ لبعض ما مرت به لبنان من أحداث وعواصف سياسية واجتماعية منذ الاحتلال الفرنسي حتى هذه اللحظة، إذ روت لنا يمنى الحصارات والنضال الذي تعرضت له صيدا المدينة التي تعتبر مسقط رأس الكاتبة. روت عن القيادات التي أُقيمت في قلعة صيدا البرية الشهيرة، عن الإضراب الذي شمل مرافق المدينة كلها حتى المدارس التي شُيدت بهدف أسمى من كل هذه الترهات تم إشراكها في الإضراب مما دعا الطلاب يخرجون من بيوتهم ليس بغرض طلب العلم بل الاحتجاج على الاعتقالات التي حدثت آنذاك. لم تسلم يُمنى الطفلة، وأُقعدت سنة جراء رصاص القناصة أثناء مسيرها في مظاهرة طلاب مدرستها.
لم تكتفي يُمنى بذكر الأحداث الأبرز والأهم التي حدثت في لبنان، بل وثقت التفاصيل التي كانت تُميز المدن عن بعضها في السابق، فتقول «نمشي ممسكين بأيدي أمهاتنا، نصل إلى باب عكا الشرقي – أحد أبواب المدينة ـ ننتظر وصول الحنطور الذي غاب اليوم، كما غابت قبله محارات الموريكس في مياه البحر. غاب الحنطور ولم تغب المدينة لكنها بقيت أشبع بإنسان مقطوع الساقين، عاجز عن الحركة أبعد من حدوده عالمه القديم وبقي سكانها داخلها في غربة يحنون إلى مالا يعرفونه، إلى المبهم، ويحرصون على قناديل الغاز حتى بعد وصول الكهرباء».
وثقت السلام الطائفي في أبهى صورة وكيف أنه من اللا غريب أن يجاور المسلم المسيحي وأن يشتري إحداهما من سوق الآخر.
تنقلت يمنى في التوثيق عن حياتها في أراضي لبنان بين اسمين، فتارة كانت تكتب عن "حكمت" -وهو الاسم الحقيقي للكاتبة- وتارة كانت تكتب عن يمنى والاسم الذي اختارته أن يكون اسمًا أدبيًا لها. ووصفتهما بأنهما امرأتان في روح واحدة، مختلفتان في الفكر و الطموح والتطلعات ويدور بينهما حوار الذات لتكتب إحداهما عن الأخرى والتحولات والحيرة الكبيرة بين الاسم الحقيقي واللقب الأدبي.
انتقلت يمنى من صيدا إلى بيروت الحلم، إذ حققت فيها ما تتمناه من مستوى تعليمي راق، ولأن الآمال والطموحات شمعة يصعب إحراقها؛ كان الحلم الثاني باريس، إذ تلقت فيها التعليم العالي لتحصل شهادة الدكتوراه من جامعة السوربون.
فتقول «هربت من حكمت إلى يمنى، تركت مدينتي بحثًا عن أفق. أريد أن أتحرر من ذلك الماضي».
وبالرغم من هذا كله، وصفت يُمنى بأننا نزداد حنينًا إلى المكان الأول من عمرنا، فتقول «في ضلوعنا غريزة الحب إلى الأمكنة الأولى، بيوتنا ومدننا التي هي أعشاشنا وقواقعنا، هي المغارات والأعماق، هي التجاويف التي تشبه الأرحام حيث يولد أول نبض بالحياة»
سيرة اختلطت فيها الحياة البسيطة والطفولة الشامية العابقة بالياسمين بسنين النضج وحب التمرد، والتوثيق التاريخي أكسب السيرة مصداقية تستحق أن تُقرأ.
نُشر في ملتقى المرأة العربية
تعليقات
إرسال تعليق